الجمعة، 3 أبريل 2015

مفهوم الأشياء المستقبلية: تعريف الشيء المستقبلي في اللغة والفقه والقانون

الفصل الأول
مفهوم الأشياء المستقبلية
وتحته ثلاثة مباحث

المبحث الأول : تعريف الشيء المستقبلي
تمهيد :
منذ أن خلق الله تبارك وتعالى الإنسان ، وجد الإنسان نفسه بأن بناء النفس والأسرة ، وبناء المجتمع والأمة لا يكون إلا بالاكتساب ، ولا اكتساب إلا بالعمل . والعمل لا يكون إلا بالتعامل مع الآخرين ، سواء كان العمل والاكتساب مشروعًا أم غير مشروع ، أخلاقيًا أم غير أخلاقي .ولذلك كانت المعاملات البينية هي الأساس الذي يمكن للإنسان أن يقتات منه نظرا لأن بعض حاجة كل إنسان  إن لم تكن كلها هي عند آخر ، ولذلك فإنه لا يوجد أي إنسان يمكنه الاستغناء عن الآخرين.
وقد يكون محل تلك المعاملات شيء حاضر أو شيء مستقبلي مؤجلا فيه أحد الثمنين ، والأغلب هو أن يكون حاضر المثمن مؤجل الثمن بسبب فقر الإنسان في أغلب الأحوال ، إلا أن المجتمع أيضا لم يكن خاليا من رجال أغنياء خاصة في الزمن الإقطاعي مستعدون لدفع النقد  مقدما كقروض مقابل أشياء مستقبلية مؤكدة الحدوث والوجود وقد تركز ذلك الأمر أكثر في المجال الزراعي أو الأشياء التي تصنع ، وقد كان ذلك النوع من التعامل بمثابة مصلحة مشتركة للجانبين ، مصلحة للغني للحصول على ما ترغب فيه نفسه المجبولة على حب متاع الدنيا والاستزادة منه ، ومصلحة للإتسان المعدم الفقير أيا كان ذلك الإنسان وفي أي مكان كان لأن المعدم لا وسيلة له في حركة الحياة إلا أمور ثلاثة ، الأمر الأول : الرِّفْدُ أي عطاء تطوعي يستعين به على حركة الحياة . والأمر الثاني : القرض .ويزيد المعدم المسلم بالأمر الثالث وهو الفرض المتمثل في الزكاة.
وهذا التداين في المعاملات بين البشر هو ما يجعل سفينة الحياة تسير بشكل منتظم ليتولد عنها اقتصاد يمكنه بنيان مجتمع. ومع مرور الزمن تطور هذا النمط الاقتصادي لينتقل من مرحلته الابتدائية إلى مرحلة أكثر تطورا وتماشيا مع تطور المجتمعات سواء من حيث طريقة التعامل ، أو من حيث محل التعامل .
فالفقه كما القانون يعتبر كل بيع لأشياء مستقبلية يعد بيعا ولو كان المبيع غير موجود فعلاً وقت البيع ، و لكنه محتمل أو محقق الوجود في المستقبل  

المبحث الأول
تعريف الشيء المستقبلي
المطلب الأول :تعريف الشيء المستقبلي لغة
الفرع الأول : تعريف الشيء لغة:
الشَيْءُ تصغيره شُيَيْءٌ وشِيَيْءٌ أيضاً بكسر الشين وضمِّها، ولا تقل شُوَيٌّ، والجمع أشياء غيرُ مصروفٍ. والمشيئة: الإرادة، وقد شئتُ الشَّيْءَ أَشاؤُهُ. وقولهم: كل شيء بِشِيئَةِ الله، بكسر الشين أي بمشيئة الله تعالى. الأصمعي: شَيَّأتُ الرَّجُلَ على الأمر: حَمَلْتثهُ عليه. وأشاءَهُ لغة في أَجاءَهُ أي أَلْجَأَهُ([1]).
 (الشيء) الموجود وما يتصور ويخبر عنه و(المشيئة) الإرادة و(المشيأ) المجبر على الأمر والمشوه المختل الخلقة([2]).
والشيء : جمع أشياء وأشاوى واشياوات واشاوات وأشايا ، الموجود ، شيء من الهمة : قليل من الهمة ، بعض الشيء : القليل منه ،شيئا فشيئا : قليلا قليلا ، والشيئة : الاسم من شاء، الارادة([3]). .
والمشيأ كمعظم : المختلف الخلق المختله . ويا شيء : كلمة يتعجب بها تقول : يا شيء مالي كياهيء مالي ... وشيأته على الأمر : حملته ..... وتشيأ : سكن غضبه. ([4])
  و[شيأ] ش ي أ : المَشِيئةُ الإرادة تقول منه شاءَ يشاء مَشيئةً قلت وفي ديوان الأدب المَشئيةُ أخص من الإرادة([5]) .

وقال الراغبُ([6]):الشيْءُ:عِبارة عن كُلِّ موجودٍ إِمَّا حِسًّا كالأَجسام، أَو مَعْنَى كالأَقوال، كما عُلِم باستقْراءِ كلامِهم وبنحْوِ (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص : 88) إِذا المعدومُ لا يَتَّصِفُ بالهَلاكِ ، وينحْوِ (وإن من شيء إلا يسبح بحمده )(الإسراء : 44) إِذ المعدوم لا يُتَصَوَّرُ منه التسبيحُ . ([7]) .
من هذه التعريفات لكلمة الشيء والتي أسهب البعض فيها كثيرا ، كما جاء في تاج العروس يتضح أن كلمة الشيء تحمل مفهوما واسعا ، فهي تطلق على الكل . (الأنا ونحن )والكل بمعنى ما جاء في القرآن الكريم، فهل بقي شيء من الشيء على قول أهل الباطن .
ولأن الشيء أي شيء لابد أن يكون له إسم فقد ميز بعض الكتاب بين تعريف الإسم وتعريف الشيء فماهو الفرق بين الإثنين ؟
تفيد الكتابات المنطقية العربية والغربية  أن الفضل في التمييز بين ’’تعريف الاسم‘‘ و’’تعريف الشيء‘‘ يرجع إلى الفكر اليوناني، و يقصد بالتعريف الاسمي تحديد الطريقة التي تستعمل فيها كلمة من كلمات اللغة، وهو مايدعوه المناطقة العرب بالتعريف اللفظي([8]).
 ويحده التهانوي بقولههو الذي يقصد به الإشارة إلى صورة حاصلة وتعيينها من بين الصور الحاصلة ليعلم أن اللفظ المذكور موضوع بإزاء الصورة المشار إليه[9].
أما التعريف الشيئي، ويسمى أيضا التعريف الحقيقي، فيختص بالموجودات الخارجية، وينقسم إلى’’حد‘‘ و’’رسم‘‘، فالحدهو قول دال على ماهية الشيء.
أما الرسم فهوالقول المؤلف من أعراض الشيء وخواصه التي تخصه جملتها بالاجتماع وتساويه[10].وقد قسم المناطقة العرب كل واحد منهما إلى تام وناقص[11]وهذا بحثه يطول
الفرع الثاني : تعريف المستقبل لغة واصطلاحا :
المستقبل لغة  هو : ما واجَهَك، فما تستقبله من أيامٍ هو مستقبلك؛ لأنك تواجهه، ويُسمَّى كل ما يأتي من الزمان بالمستقبل.
ويطلق الغيب على المستقبل أيضاً ([12])
المستقبل اصطلاحا : هناك خلاف في تعريف المستقبل فمن الناس من يحسبه ما وراء اليوم الحاضر إلى حين الوفاة وحسب! وأغلب البشر في يومنا هذا لا يعرفون المستقبل إلا في هذا النطاق الضيق! فإذا قال أحد: أنا افكر في مستقبل! فليس يعنى إلا غده القريب وشيخوخته المقبلة.. أما النظر في الدار الآخرة وإعداد ما يغنى فيها فالتفكر فيه بعيد مع كثرة النذر وموت العشرات والمئات كل ساعة:   قال تعالى : (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم) [الأنبياء : 1ـ3] وأهل الإيمان الواعى يعرفون أن المستقبل الحقيقى يشمل الأرض والسماء معا، ويتناول القليل الباقى من العمر- ولو كان عشرات السنين- والطويل الباقى من الحياة الأبدية بعد الرحيل من هنا! وهذا ما يلفتنا القرآن إليه عندما يعبر عن الآخرة بالغد في قوله تعالى: ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) [الحشر : 18ـ19]([13]).
ومن قواعد العقيدة الإسلامية وأصولها التي أجمع عليها المسلمون: أن الله - سبحانه وتعالى - استأثَر بعلم الغيب دون خلقه، فلا يعلم الغيبَ أحدٌ سواه، فهو المنفرد بذلك وحده، والغيب الذي تفرَّد به الله بعلمه هو ما لا يُدرَك بالحس ولا بالتجربة والمقايسة، فإن من الأشياء ما يغيب عن حسِّ بعض البشر ويُدرِكه بعضهم، ومنه ما يغيب عن الحس ويُدرَك بالعقل؛ كالعلم بحصول الكسوف والخسوف، ونحوهما ممَّا يُستَنبط من استقراء السنن الكونية، فهذا ليس من علم الغيب - مع غيابه عن الحس - لأنه يُمكِن إدراكه، وهو ما يُسمَّى بالغيب النسبي أو المقيَّد. مع أن الإدراك المستقبلي ظنِّي وليس قطعيًّا؛ لجواز تخلُّف الأسباب أو الخطأ في التقدير مثلاً، ولذا لا يجزم به الإنسان، .... وما يقع في المستقبل ممَّا لا يرتبط بالتجربة والمقايسة ونحوها ، من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله – تعالى.([14])
ويُروَى أن العالم الشهير ألبرت آينشتاين سُئِل ذات مرَّة: لماذا تُبدِي اهتمامًا بالمستقبل؟ فردَّ قائلاً: ببساطة، لأننا ذاهبون إلى هناك .
المطلب الثاني
تعريف الشيء المستقبلي اصطلاحا
الفرع الأول : - الشيء في الاصطلاح الفقهي :
عندما فسر ابن عرفة ([15]) في كتابه المعروف بتفسير ابن عرفة المالكي ،قوله تعالى :  والله بكل شيء عليم ([16]) ذكر بأن المفسرين اختلفوا في لفظ (شيء) هل يصدق على المعدوم أو لا؟
وذكر بأن الشيخ القرافي([17]) ، قال: إن ذلك الخلاف إنما هو في كونه محكوما به لا في كونه متعلق الحكم كقولك : المعدوم شيء. وأما مثل (والله بكل شيء عليم)  فهو متعلق الحكم .
و التفسير بأن المعدوم هو شيئ ، المقصود هو في حق الله تبارك وتعالى لأنه يعلم المعدوم والموجود .
فقال ابن عرفة : إنما الخلاف مطلقا ، وما ذكروا هذا إلا في اسم الفاعل المشتق وأما في هذا فقد ذكره الآمدي([18]) في أبكار الأفكار مطلقا. واعتبر ابن عرفة بأن الآية حجة بأنّ المعدوم ليس بشيء وهو مذهب أهل السنة.[19]
وعرف الدكتور سامر الخطيب الشيء بمايلي : الشيء: كلمة تدل على دخول الأمر في التصور العلمي أو الذهني، وظهور أبعاده مع إمكانية حصوله في الوجود الموضوعي خارج الذهن أو العلم. و الشيء ضربان:
الأول: شيء علمي: وهو دخول الأمر في التصور وظهور أبعاده في العلم أو الذهن فقط دون إيجاده بصورة موضوعية خارج العلم أو الذهن.
الثاني: شيء موضوعي: وهو إخراج الشيء العلمي أو الذهني إلى حالة الوجود الموضوعي.
ومن خلال ضبط تعريف كلمة (الشيء) نلاحظ أن الشيء هو الذي يمكن أن يتشيَّأ في العلم أو الذهن، ويأخذ أبعاداً معينة، فالأوهام والخرافات ليست أشياء لأنها لا يمكن أن تتشيأ في العلم، ولا يمكن أن توجد خارج العلم أو الذهن. مثل مفهوم الشريك لله، أو انتفاء وجود خالق، فهذه أوهام محلها الذهن غير قابلة لأن تصير شيئاً، وهي بالتالي لا شيء، واللاشيء لا يتعلق به العلم أو المعرفة أو القدرة أو الإرادة، لأن كل ذلك مرتبط بالشيء. ( وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم (الأنعام101) وبناء على ما سبق من تعريف الشيء نصل إلى أن الشيء محدود وحادث وممكن الوجود. وبالتالي لا يصح تطبيق قوانين وقواعد الشيء على خالق الشيء لتغايره عن الشيء (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)([20]) وانظر إلى حرف (ك) فهو للتشبيه، ويفيد بأن الله ليس شيئاً، وبالتالي لا يوجد من الأشياء من يمكن أن يتصف بصفات الله ?. فالله أحد صمد.
وبعد هذا الشرح نستطيع أن نفهم قوله تعالى: (إنما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون )([21])  لأن بعض الفلاسفة قالوا: الشيء له صفة الوجود الأزلي وذلك استنباطاً من جملة (أن يقول له كن فيكون) أي أن الخالق يخاطب شيئاً موجوداً يطلب منه التحول إلى صورة أخرى أرادها الخالق ليتجلى من خلالها. وهذا الكلام يخالف العقل والواقع لأن النص صريح في أن صفة الإرادة سبقت عملية التشيؤ (إذا أراد شيئاً) والمقصد هو توجه الإرادة الإلهية لعملية تشيؤ أمر معين يلازمها مباشرة توجه الإرادة لإيجاده في الوجود الموضوعي، أي تلازم توجه إرادة الله للشيء علماً وإيجاداً بوقت واحد (كن فيكون) فخطاب الله موجه إلى الأمر الذي تشيَّأ في الإرادة بعد أن لم يكن شيئاً.
لذا؛ لا يصح أن نطلق كلمة (شيء) على الخالق أبداً، كما أنه لا يصح أن نطبق عليه قوانين الأشياء. بخلاف أفعال الخالق فهي أشياء أرادها الخالق على شيئيتها.
والمفهوم الذي يقابل (الشيء) هو (اللاشيء) وهي كلمة تدل على ذاتها، فاللاشيء هو لا شيء، وبالتالي لا يتعلق به أي شيء. بمعنى أنه لا يصح أن تقول: الله عالم أو قادر على اللاشيء. فهذا من المغالطات العقلية([22]).
الفرع الثاني -  الشيء المستقبلي في الاصطلاح المعاملاتي :
1-الشيء : هو كل ما هو متداول في التجارة لكن بشرط أن لا يخالف الشرع أو النظام العام والآداب العامة .سواء كان ذلك الشيء منقولا أم عقارا أم أشياء قيمية ... الخ , ويلزم أن يوجد أثناء إبرام العقد أو يعين أو يكون قابلا للتعيين أو الوجود ، ويجب عدم مخالفته للشرع الإسلامي وللنظام والآداب العامة ، وكذلك وجب أن لا يكون مستحيلا في ذاته . ولو كان شيئا مستقبليا بشرط أن يكون محقق الوجود.
2- الشيء المستقبلي : هو الذي سيوجد بعد إبرام العقـد ، إلا أنه يشترط  أن يكون هذا الشيء محقق الوجود كشيء مزروع لم ينبت بعد ، أو دار لم يبدأ البناء فيها بعد ، فكل من الدار والمزروع من الأشياء المستقبلية والمحققة في وجودها .
المطلب الثالث
تعريف الشيء المستقبلي قانونا
-           الفرع الأول : ماهية الشيء القانوني :-
وردت كلمة الشيء في الفصل الأول من قانون المعاملات المدنية السوداني ، عند تناوله للأموال والأشياء  ، وقسم الأشياء التي تصلح لان تكون حقا ماليا في المادة 25 في الفقرات من 4 إلى 7 إلى : -(الأشياء المثلية وهى ما تماثلت احادها أو اجزاؤها أو تقاربت بحيث يمكن ان يقوم بعضها مقام بعض عرفا بلا فرق يعتد به وتقدر في التعامل بالعدد أو القياس أو الكيل أو الوزن. والأشياء القيمية هي ما تتفاوت أفرادها في الصفات أو القيمة تفاوتا يعتد به أو يندر وجود افرادها في التداول . والأشياء الاستهلاكية هي مالا يتحقق الانتفاع بخصائصها الا باستهلاكها والأشياء الاستعمالية هي ما يتحقق الانتفاع بها باستعمالها مرارا مع بقاء عينها)([23]). و ترجع الحكمة من جواز بيع الأشياء المستقبلة إلى حاجة الناس إليها .
والقاعدة العامة تقضي بجواز قيام الالتزام إذا كان محله شيئاً مستقبلاً , والعقد يكون صحيحاً متى كان محله أو المعقود عليه ممكن الوجود بعد نشوء الالتزام ([24]).
وأهمية وجود المبيع ، حولها الرومان إلى أن تكون شيئا ملموسا اكثر ، (فقد كان الرومان يشترطون وجود المبيع في مجلس العقد ، ففي بيع الارض اشترطوا إحضار جزء من ترابها ، رمزا إلى حضورها في مجلس العقد([25]) .إلاا أنه لا يجوز أن يكون محلا للبيع في المستقبل أي شيء كان فيه غرر مثل بيع الآبق، وبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وبيع الدين، وبيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع ما لم يقبض.
وعليه فإنه بالإمكان إعطاء تعريف مختصر للشيء المستقبلي قانونا : بأنه محل لالتزام محقق الوجود يتم الوفاء به في المستقبل شريطة أن لا يخالف الشرع والنظام العام والآداب.
وبعد التعرف على الشيء المستقبلي لغة واصطلاحا وقانونا ، فإننا نكون بذلك أصبحنا ندرك بان هذه الأشياء باختصار هي المحل الذي يكون موضوع أي عقد أو بيع سواءا كان حاضرا أو مؤجلا أو مستقبلا ، ويدخل ضمن التصنيف الأخير العقود المستقبلية ، المعاصر منها والشرعي .
وأن هذه الأشياء المستقبلية تتمتع بنفس القدسية الشرعية والقانونية التي تحظى بها الأشياء الحاضرة أو الماضية بالتملك الفعلي وسيورد الباحث مثالا على هذه الأشياء وكيف أن الشرع والقانون يحميانها وهي الحقوق المعنوية ، كما تتعامل معها النصوص كما لو أنها واقعا ملموسا بالبيع والشراء وتخضع للإجراءات القضائية التي تخضع لها الأشياء الحاضرة  . وقد تم توضيح سابقا لماذا يتم التركيز على هذا النوع من الحقوق . فما هي الحقوق المعنوية ؟ وما هو حكم الشريعة الإسلامية والقانون من الحقوق المعنوية,؟ وهل كافة الحقوق المعنوية معتبرة شرعا ويمكن الاعتياض عنها أو مبادلتها بمال؟ا
الفرع الثاني : الحقوق المعنوية كنموذج للتعامل في الأشياء المستقبلية
يقسم الفقهاء الحقوق بشكل عام إلى قسمين :-
الحقوق الشرعية: وهي التي ثبتت من قبل الشارع, ولا مدخل في ثبوتها للقياس, مثل حق الشفعة, وحق الولاء, وحق الوراثة, وحق النسب, وحق القصاص, وحق التمتع بالزوجة, وحق الطلاق, وحق الحضانة والولاية... إلخ.
الحقوق العرفية: وهي التي ثبتت لأصحابها بحكم العرف والعادة, مثل حق المرور في الطريق, وحق الشرب, .... الخ).
فالنوع الأول من هذه الحقوق معروف بأنه لا يمكن التصرف فيها ، لأنها ليست ملك زيد ولا عمر ، فهي سابقة لوجود الشخص .
أما النوع الثاني فهي حقوق مكتسبة  ، وفي بعض الأحيان قد تكون حقوقا ملكية . ([26])  ويدخل ضمن هذه الحقوق ما أصبح يعرف بالحقوق المعنوية.
تعريف الحقوق المعنوية :
 الحقوق المعنوية :هي الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع أو الابتكار ([27]). وغير ذلك مثل السمعة ..
لكن  هل يجوز بيع تلك الحقوق ؟
اختلف الفقهاء في ذلك, وأصل الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة هو اختلافهم في معنى المال, فمن قال بأن هذه الحقوق أموالا أجاز بيعها, ومن قال بأن المال يشمل الأعيان فقط منع بيع هذه الحقوق لأنها ليست أعيانا, وهذا هو رأي معظم فقهاء الحنفية, أما جمهور الفقهاء فهم مع الرأي الأول الذي يعتبر هذه الحقوق أموالا, وبالتالي يجوز بيعها.
ويمكن ملاحظة أن معظم الأدلة التي يستدل بها لجواز بيع الحقوق المعنوية هي أدلة عقلية, تستند إلى قاعدة المصالح المرسلة وتنسجم مع المقاصد الشرعية العامة التي تدعو إلى جلب المصالح ودرء المفاسد بشكل عام.
ومن أبرز هذه الأدلة :
 1- إن هذه الحقوق تمثل منافع دائمة لأصحابها, وبالتالي يمنكهم بيع بعض هذه المنافع.
2- إن هذه الحقوق يمكن أن تكون ثمرة جهود ذهنية وعمل متواصل وبالتالي فإن أصحابها هم أحق بهذه الثمرة أو الغلة, ويمكن لهم بيع بعضها متى شاءوا ذلك.
3- إن هذه الحقوق ثابتة لأصحابها, ويتحملون وحدهم تكاليفها ومسئولياتها في حالة الضرر, وفي المقابل فإن غلتها وثمرتها يجب أن تعود إليهم. ([28])
ويدخل ضمن هذه الحقوق المعنوية ما يعرف  بالمصنفات الأدبية والفنية والعلمية التي تتمتع بحماية القانون.
والتصنيف لغة: [صنف] : الصِّنْفُ النوع والضرب وفتح الصاد لغة فيه و تَصْنيفُ الشيء جعله أصْنافا وتمييز بعضها من بعض([29]).
والمصنف في الفقه هو العمل الأدبي أو الفني أو العلمي الذي يفرغ في شكل مادي يبرزه إلى الموجود .
1-   الموقف الشرعي من الحقوق المعنوية:
جاء في قرار المجمع الإسلامي الفقهي رقم   (5) ما يلي :
القرار: بعد الاطلاع على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله قرر المجلس :
أولاً: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها
ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفي الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً
ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها. ([30])
2-   الموقف القانوني من الحقوق المعنوية :
يجيز  القانون لأي كان أن يتنازل عن أعماله الفكرية المستقبلية إذا كانت الأعمال الفكرية المستقبلية قد حددت بنوعها ومدتها حتى ولو لم يبدأ بها، (للغير)، لأنه تصرف في مصنف مستقبل وهو تصرف صحيح بجواز التعامل في الأشياء المستقبلية ولأن المصنف معين تعيناً نافياً للجهالة.  وهذا ما أكد عليه القانون السوداني عند تعرضه للتعاقد على شيئ مستقبلي ، جاء في المادة 79 البند الثاني : (يجوز ان يكون المعقود عليه شيئا مستقبلا اذا عين تعيينا نافيا للجهالة والغرر).([31])
واعتبر القانون المصري أنه إذا كانت الأعمال الفكرية المستقبلية غير محددة ولا معينة، فإن التنازل عن الأعمال الفكرية المستقبلية  يعد تصرفاً باطلاً بسبب عدم تعيين المحل من جهة ولعدم جواز الاتفاق على شركة مستقبلية ([32]).
ومن ابرز الاتفاقيات التي وقعت في هذا المجال هي الاتفاقية العربية لحماية الحقوق المؤلف التي وقعت بتاريخ 5/11/1981 في بغداد وقد وقعت عليها عدد من الدول العربية ماعدى سوريا فإنها لم تنضم إلى الاتفاقية، وربما السبب آنذاك عائد غلى سوء العلاقة بين النظامين العراقي والسوري ، ولكن هذه الاتفاقية لم تضع المصنفات المحمية ضمن تصنيف محدد إنما وضعت قائمة لهذه المصنفات، وقد تضمنت هذه القائمة المصنفات التالية:
أ - الكتب والكتيبات وغيرها من المواد المكتوبة.
ب - المصنفات التي تلقى شفاهاً كالمحاضرات والخطب والقواعد الدينية.
ج - المؤلفات المسرحية والمسرحيات الموسيقية.
د - المصنفات الموسيقية سواء أكانت مرقمة أم لم تكن سواء أكانت مصحوبة بكلمات أم لم تكن.
هـ - مصنفات تصميم الرقصات والتمثيل الإيمائي......... الخ.
لقد تم التعرض سابقا لموقف المجمع الفقهي من الحكم على شكل من أشكال الحقوق المعنوية عند تناول الموقف الشرعي من تلك الحقوق ، أما أنواع الحقوق المعنوية التي تم تناولها في الجانب القانوني كما جاء أعلاه ، فإن  اختلاف الحكم الشرعي فيها يختلف باختلاف وجهة النظر الفقهية ، فمثلا من لا يحرم الاستماع إلى الموسيقي فإنه يعتبر تلك الحقوق مصانة لمن ابتكرها ولا يجوز نسخها أو تصنيعها إلا بإذنه، ومن لا يجيز الاستماع إليها بل ويحرمها فإنه بالتأكيد أيضا يرى بأنه ليس من حق الغير نسخها وتصنيعها ليس حرصا على حق المصنع أو المبتكر الاصلي ، وإنما خوفا من نشر الفاحشة حسب تصوره ، وعليه فإنه يمكن القول بأن كلا من الشرعيين والقانونيين يحفظ للمبتكر الأصلي حقه في منتجه وإن اختلفت الاسباب ، أما الإتيان بآراء المحللين والمحرمين لتلك الحقوق فإنه يحتاج إلى بحث أطول وأعمق .


[1] - أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفرابي: الصحاح في اللغة-، ط 1 ، دار إحياء التراث العربي بيروت ، لبنان 1999ج 1 ص 375
[2] - إبراهيم مصطفي ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار: المعجم الوسيط ـ: -دار النشر : دار الدعوة-تحقيق : مجمع اللغة العربية - (1380-1960) الجزء : 1- ص 502
[3] - - ناصر سيد احمد ، مصطفي محمد ، محمد درويش ، ايمن عبدالله ، المعجم الوسيط ، ج: 1- ص 340، دار احياء التراث العربي .
[4] - الفيروز ابادي ،محمد بن يعقوب  القاموس  المحيط ، فصل الشين ، مادة ، شاشأ
[5] - الرازي ،محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر - تحقيق : محمود خاطر : مختار الصحاح- الناشر : مكتبة لبنان ناشرون – بيروت- ، 1415 – 1995- l ، مادة ، شيأ
[6] -الراغب (؟ - 502هـ)هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني، أديب، لغوي، حكيم، مفسر . من أهل " أصفهان " سكن بغداد، واشتهر، حتى كان يقرن بالإمام الغزالي .من تصانيفه : " الذريعة إلى مكارم الشريعة " ، و " حل متشابهات القرآن " وجامع التفاسير والمفردات في غريب القرآن " .[معجم المؤلفين 4 / 59، وفي مقدمة " المفردات]
[7] - أبو الفيض محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني : تاج العروس من جواهر القاموس- تحقيق : مجموعة من المحققين- الناشر : دار الهداية- - ج 1-ص 293
[8] - أبو يوسف الكندي :الرسائل الفلسفية، ، ، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة1960، ص. 163
[9] - محمد التهانوي :كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ، ج1 ص، ص. 483 ، تحقيق علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1- لبنان، 1996
[10] - أبو حامد الغزالي : معيار العلم في فن المنطق، دار الأندلس، بيروت، ص. 194
[11] - أثير الدين الفضل الأري  :إيساغوجي، ، ط. القاهرة1949 ، ص271
[12] -إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد .صالح بن فواز بن عبد الله الفوزان .الناشر مؤسسة الرسالة .الطبعة الثالثة -1422-2002 ، ج 1 ص 65
[13] - محمد الغزالي .المحاور الخمسة للقرآن الكريم. الناشر : دار نهضة مصر. الطبعة الأولى
[14] - الإسنوي الإمام جمال الدين عبد الرحيم : نهاية السول اية السول شرح منهاج الوصول،الناشر: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1420هـ- 1999 ج ا ص 16
[15] --ابن عرفة (716 - 803 هـ)هو محمد بن عرفة الورغمي . إمام تونس. قدم للخطابة سنة 772 هـ والفتوى 773 هـ . كان من فقهاء المالكية ، .من تصانيفه : ((المبسوط)) في الفقه سبعة مجلدات ؛ و ((الحدود)) في التعريفات الفقهية .[ الديباج المذهب ص 337 ؛ ونيل الابتهاج ص 274 ؛]
[16] - سورة البقرة (نهاية آية الدين 282   )
[17] - القرافي (626 - 684 هـ) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن ،. أصله من صنهاجة ، قبيلة من بربر المغرب . نسبته إلى القرافة وهي المحلة المجاورة لقبر الإمام الشافعي بالقاهرة . فقيه مالكي ..من تصانيفه : ((الفروق)) في القواعد الفقهية ؛ و ((الذخيرة)) في الفقه ؛ وكتب أخرى)[  الديباج ص 62 - 67 ؛ شجرة النور ص 188]
[18] - الآمدي (551 - 631 هـ)هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي  سيف الدين الآمدي . ولد بآمد من ديار بكر . أصولي باحث . كان حنبليا ثم تحول إلى المذهب الشافعي . وتوفي بدمشق .من تصانيفه : ((الإحكام في أصول الأحكام)) ؛ [ الأعلام للزركلي 5 / 153 طبقات الشافعية للسبكي 5 / 129 ـ 130 ]
[19] - أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة : تفسير ابن عرفة المالكى - دار النشر : مركز البحوث بالكلية الزيتونية - تونس - 1986 م- الطبعة : الأولى- تحقيق : د. حسن المناعي- الجزء 2 ص 796-797
[20] - سورة الشورى الآية 11
[21] - سورة يس ، الآية 82
[22] - من الانترنت : سامر الخطيب : منتدى التوحيد- من موقع
www.elibrary4arab.com/ebooks/mante :
[23] - قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م- مرجع سابق
[24] - بلحاج العربي/ النظرية العامة للالتزام في القانون المدني- الجزء الأول ـ ط5 ـ ص 139 ـ ديوان المطبوعات الجامعية
[25] - البعلي ، عبد الحميد : ضوابط العقود في الفقه الإسلامي ، ص 10 – مؤسسة الشرق للعلاقات العامة، عمان الأردن، الطبعة الأولى 1985م.
[26]- العثماني, تقي الدين: بحوث في قضايا فقهية معاصرة ، ص 77 ، ط ، دار القلم ، دمشق 1998
[27]- مجمع الفقه الإسلامي، جدة، الدورة الخامسة، القرار رقم (5).
[28]- شبير, محمدعثمان: المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي, دار النفائس, عمان, 1996.
[29]- مختار الصحاح- مرجع سابق مادة صنف
[30]- قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1309 الموافق 10 إلى 15 ديسمبر 1988 م قرار رقم 43
[31] - قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م- مرجع سابق
[32] - المادة /40/ من القانون المصري رقم /354/ لعام 1954.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق